أنا مُهندِسة، وقد تمّ تعيينِي في مكانٍ مرموق، تقدم للزّواجِ مني زميل من زملائي. اسمه يوسف. أنا شخصية عقلانيّة، ولست عاطفية، بحثتُ مع أمّي ظروفه: ميسور الحال، والداه محترمان، ثمّ تم الزواج..


أغرقني بمشاعرِه التي لم أعرف كيف أستقبلها، أنا شخصيةٌ عقلانيّة ومنهجيّة، أمّا هو فشخصٌ عاطفيٌّ جدًا لدرجةِ البُكاءِ أحيانًا.


أنجبتُ رُقيّة. هي ووالدها يحبان الأحضان والحركة، ومتكلمان، ويتحركان دوما، وليسا عقلانيين! وكنت أكره ذلك.


ثم أنجبتُ ريهام. مثلي تماما، عقلانية، تتحدث بحساب، أشعر معها بالارتياح.


بصراحة: أعترفُ أني كرهت من داخلي شخصيّة رُقيّة، لكن.. كان عندي أملٌ أن تتغيّر بعد كثرة الانتقاد، وتتحول لشخص هادئ! لكن ما حدث هو أنها بقيت حركية، لم نتفق على شيء، كنتُ أكرهُ ذلك!


كنتُ دومًا أُقارن بين ريهام العاقلة، وبين عشوائية الأخرى، أو بالأحرى.. بين رزانة ريهام وتهور رقية.


زوجي كان أميلَ لرُقية، وكان يصِفني بالجفاءِ العاطفيّ. كنتُ أرتقِي في عملي. سعيدة. لكنّي لاحظت مع تقدمِ البنات بالسنّ ميل رقيةَ إلى أبيها وحضنه، وتباعدها عني وكرهها لانتقاداتي. أما ريهام فهي مريحة وعاقلة.


لكن فجأة! مات زوجي في حادث مروري. وكانت رقية بالإعدادية، وريهام في السادس ابتدائي، شعرت أن سهمًا اخترقني. 


رحيل الزوج بالفعل عصيبٌ، تذكرت جفائي معه. وشعرت بحرقة قلب، لكن  رقية كانت منهارةً تمامًا، وبعد الانهيار كانت مندفعة ومتهورة وتشعر أنها بلا ضابط ولا رابط. وريهام حزينة.


فوجئت أن رقية دوما في انعزال، وتتباعد عني وعن أختها، أصرخ في وجهها، تصرخ في وجهي!!


ثم مرة هددتني أن تترك البيت، واتهمتني بعدم حبي لها. وبالفعل، تركت البيت!!


كنت كالمجنونة أبحث عنها، إلى أن كلمني والد صديقتها وأخبرني بوجودها مع ابنته وزوجته.


بكيت بحرقة، ربما أكثر من يوم وفاة زوجي! ما الذي ينفر هذه البنت مني؟؟


أنا محددة حازمة صارمة لكنني لست طويلة اللسان ولا أضربها إلا نادرًا! وهي مثلها مثل أبيها، نفس العاطفة المفرطة التي لا أحبها.


طلب والد صديقتها أن يراني ويتحدث معي. هو طبيب نفسي. قال لي أن رقية محبة أحضان، وأنها تفتقدني وتشعر بكراهيتي لها وتفضيلي لريهام عليها.


قلت له طبيعي لأن ريهام أعقل، قال لي جملة عجيبة: (رقية مختلفة عنك، أحبّي اختلافها)، أولادنا ليس من الضروري أن يشبهوننا، الحياة تحتاج الجميع، رقية مشوهة النظرة لنفسها وتقول أنك لا تحبينها. 


شعرت بالضيق الشديد، قلت للطبيب (أحبها والله لكن...)، قاطعني: (ابنتك مختلفة الطباع عنك، هذا ليس سوءًا فيها)


لم أقتنع! وعادت فأعطيتها محاضرة طويلةً في الأدب، وبكت كثيرًا..


لاحظت بعدها أنها أصبحت أكثر انعزالية، ساكتة دومًا، تحتضن ذكريات أبيها..


ريهام مريحة وتفهمني. أفكر دائمًا: ما فائدة هؤلاء العاطفيين؟! إنهم عبء على العقلانيين! هي وأبوها رحمه الله شخصيات مريعة!


مضت حياتنا في صراع. 

 

تزوجت رقية من شخص عاطفي مثلها، دومًا يقول لي: يا ماما، وأنت مثل أمي، المهم أنها ذهبت من البيت. أما ريهام حبيبتي فتزوجت من دكتور بالجامعة..


أصبحت وحدي. 

بعد فترة، فاجأني السرطان.

ردود ريهام العقلانية: اهدئي، تجلدي. 

رقية تبكي من أجلي. و تدعو الله لي كثيرا.


عندي موعد عند الطبيب.  

رقية تحمل ابنها الرضيع وتكون عندي بسيارة زوجها قبل الموعد. أما ريهام فتعتذر لأنها لديها تعب الحمل وأيضًا لا تستطيع ترك ابنها وحده!


هذه أول مرة بحياتي وأنا مريضة بالسرطان، أعرف أن العواطف لها قيمة..


حضن رقية يهون عليّ آلامي، رغم أنّي لم أحبه أبدًا، أشعر أني وأنا في الخمسين......طفلة! زوج رقية يقول لي من قلبه: سلامتك يا ماما.


كيف كرهت العواطف والعاطفية؟؟.


ريهام حزينة، لكن دعمها بحساب.. تمامًا مثل شخصيتها. أما رقية وزوجها، دعمهما وعطفهما بلا حساب! 


بكيتُ من قلبي وتذكرت سابق أيام حياتي... احتضنت رقية... كم هو جميل حضنها... بكت وبكيت..


هل في العمر متسع لأستمتع بما لم أفهمه؟ أم أن الأجل قد دنا؟


دعوت الله من قلبي، يارب اشفني وامنحني العمر كي أسعد بابنتي المختلفة عني.. وبالفعل تم شفائي والحمد لله رب العالمين..


أنا ورقية لا نفترق، أشعر أنني اكتشفتُ كنزًا! كلامها يؤنسني وحضنها يهدئني. 

 

لا تكرهوا اختلاف أولادكم، بل أحبوا اختلافهم، وتقربوا منهم..


لا تشوهوا نظرتهم لأنفسهم، بسبب أنهم لا يشبهونكم.. أنا ورقية نحيا أسعد أيامنا.


بعد طلاق دام أربع سنوات.. يعود لزوجته بسبب منشور على الفيس بوك

قصة وعبرة (لعله خيرا) كان لأحد الملوك وزير حكيم..

قصة وعبرة قصة حقيقية لعامل ينجو من الموت ( فلا تحقرن من المعروف شيئا )