يقول احدهم كنت أمشي في صحراء.. فضللت الطريق.. فوقفت على خيمة قديمة.. فنظرت فإذا رجلٌ جالس على الأرض.. بكل هدوء.. وإذا هو قد قطعت يداه.. وإذا هو أعمى.. وليس عنده أحد من أهل بيته.. رأيته يتمتم بكلمات..
اقتربت منه وإذا هو يردد قائلاً: الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً..
فعجبت من كلامه وجعلت أنظر إلى حاله.. فإذا هو قد ذهبت أكثر حواسه.. وإذا هو مقطوع اليدين.. أعمى العينين.. وإذا هو قد لايملك لنفسه شيئاً..
نظرت حوله.. أبحث عن ولد يخدمه.. أو زوجة تؤانسه.. لم أرى أحداً..!!
أقبلت إليه أمضي.. شعر بحركتي.. فسأل: من ؟
قلت السلام عليكم.. أنا رجل ضللت الطريق.. ووقفت على خيمتك.. وأنت الذي من أنت ؟ ولماذا تسكن وحدك في هذا المكان ؟ أين أهلك ؟ ولدك ؟ أقاربك ؟
فقال : أنا رجل مريض.. وقد تركني الناس.. وتوفي أكثر أهلي..
قلت : لكني سمعتك تردد : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً..!! فبالله عليك !! فضلك بماذا ..؟! وأنت أعمى.. فقير.. مقطوع اليدين.. وحيد..
فقال : سأحدثك عن ذلك.. ولكن سأطلب منك حاجة.. أتقضيها لي ؟
فقال : أجبني.. وأقضي حاجتك..
فقال : أنت تراني قد ابتلاني الله بأنواع البلاء..
ولكن الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً..
أليس الله قد أعطاني عقلاً ؟ أفهم به.. وأتصرف وأفكر..
قلت : بلى.. قال : فكم يوجد من الناس مجانين ؟
قلت : كثير.. قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً..
أليس الله قد أعطاني سمعاً ؟ أسمع به أذان الصلاة.. وأعقل به الكلام.. وأعلم مايدور حولي ؟
قلت : بلى..
قال : فكم يوجد من الناس.. صم لايسمعون ؟
قلت : كثير.. قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً..
أليس الله قد أعطاني لساناً ؟ أذكر به ربي.. وأبين به حاجتي ؟
قلت : بلى.. قال : فكم يوجد من الناس بُكْم.. لايتكلمون ؟
قلت : كثير.. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً..
قال : أليس الله قد جعلني مسلماً.. أعبد ربي.. وأحتسب عنده أجري.. وأصبر على مصيبتي ؟؟ قلت : بلى..
قال : فكم يوجد من الناس من عباد الأصنام والقبور والصلبان.. وهم مرضى.. قد خسروا الدنيا والآخرة..؟؟!!
قلت : كثير.. قال: فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً..
ومضى الشيخ يعدد نعم الله عليه.. وأنا ازداد عجباً من قوة إيمانه.. وشدة يقينه.. ورضاه بما أعطاه الله..
كم من مرضى غيره.. ممن لم يبتلوا ولابربع بلائه.. ممن شلهم المرض.. أو فقدوا أسماعهم أو أبصارهم.. أو فقدوا بعض أعضائهم.. ويعتبرون أصحاء لو قارناهم به.. ومع ذلك.. عندهم من الجزع والتشكي.. والعويل والبكاء.. بل وضعف الصبر وقلة اليقين بالأجر.. مالو قسم على الأمة لوسعهم..
سبحت بتفكيري بعيداً.. ولم يقطعه علي إلا قول الشيخ..
هاه..!! أذكر حاجتي..؟ هل تقضيها..؟ قلت : نعم.. ماحاجتك ؟!!
فخفض رأسه قليلاً.. ثم رفع رأسه وهو يعض بعبرته وقال :
لم يبق معي من أهلي إلا غلام لي.. عمره أربع عشرة سنه.. يطعمني ويسقيني.. ويوضئني.. ويقوم على كل شأني..
ثم خرج البارحة يلتمس لي طعاماً.. ولم يرجع إلى الآن.. ولاأدري.. أهو حي يرجى.. أم ميت ينسى.. وأنا كما ترى.. شيخ كبير أعمى.. لاأستطيع البحث عنه ؛ فسألته عن وصف الغلام.. فأخبرني.. فوعدته خيراً..
ثم خرجت من عنده.. وأنا لاأدري كيف أبحث عن هذا الغلام.. وإلى أي جهة أتوجه ؟!! فبينما أنا أسير.. ألتمس أحداً من الناس أسأله عنه ؛ إذ لفت نظري قريباً من خيمة الشيخ جبل صغير.. عليه سرب غربان قد إجتمعت على شيء.. فوقع في نفسي أنها لم تجتمع إلا على جيفة أو طعام منثور.. فصعدت الجبل.. وأقبلت إلى تلك الطيور فتفرقت.. فلما نظرت إلى مكان تجمعها.. فإذا الغلام الصغير ميت مقطع الجسد.. وكأنه ذئباً قد عدا عليه.. وأكله ثم ترك باقيه للطيور.. لم أحزن على الغلام بقدر حزني على الشيخ.. نزلت من الجبل.. أجرّ خطاي.. وأنا بين حزين وحيرة.. هل أذهب وأترك الشيخ يواجه مصيره وحده.. أم أرجع إليه وأحدثه بخبر ولده ..؟!
كنت متحيراً.. ماذا أقول ؟.. وبماذا أبدأ ؟..
مر في ذاكرتي قصة أيوب عليه السلام.. فدخلت على الشيخ.. وجدته كسيراً.. كما تركته.. سلمت عليه.. كان المسكين متلهفاً لرؤية ولده.. بادرني قائلاً : أين الغلام ؟
قلت : أجبني أولاً.. أيهما أحب إلى الله تعالى أنت أم أيوب عليه السلام ؟
قال : بل أيوب عليه السلام أحب إلى الله عزوجل..
قلت : فأيكما أعظم بلاء.. أنت أم أيوب عليه السلام ؟ قال : بل أيوب عليه السلام.. قلت : إذن فاحتسب ولدك عند الله.. قد وجدته ميتاً في سفح الجبل.. وقد عدت الذئاب على جثته فأكلته..
فشهق الشيخ.. ثم شهق.. وجعل يردد.. لاإله إلا الله.. وأنا أخفف عنه وأصبره.. ثم أشتد شهيقه.. حتى انكببت عليه ألقنه الشهاده.. ثم مات بين يدي.. غطيته بلحاف كان تحته.. ثم خرجت أبحث عن أحد يساعدني في القيام بشأنه فرأيت ثلاثة رجال على دوابهم.. كأنهم مسافرون.. فدعوتهم.. فأقبلوا إلي.. فقلت هل لكم في أجر ساقه الله إليكم.. هنا رجل من المسلمين مات.. وليس عنده من يقوم به.. هل لكم أن نتعاون على تغسيله وتكفينه ودفنه..؟؟
قالو نعم.. فدخلو إلى الخيمة وأقبلوا عليه ليحملوه.. فلما كشفوا عن وجهه.. تصايحوا : أبو قلابه.. أبو قلابه ..
وهو [أبو قلابة الجرمي] الإمام التابعي رحمه الله ..
وإذا أبو قلابة.. شيخ من علمائهم.. دار عليه الزمان دورته.. وتكابلت عليه البلايا.. حتى انفرد عن الناس في خيمة بالية.. قمنا بواجبه علينا.. ودفناه.. وارتحلت معهم إلى المدينة.. فلما نمت تلك الليلة.. رأيت أبا قلابة في هيئة حسنة.. عليه ثياب بيض.. وقد اكتملت صورته.. وهو يتمشى في أرض خضراء.. سألته : ياأبا قلابة.. ماصيرك إلى ماأرى ؟!! فقال : قد أدخلني ربي الجنة.. وقيل لي فيها :
[سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]﴿ سورة الرعد -٢٤﴾.
===========
القاها فضيلة الشيخ محمد العريفي حفظه الله... بتصرف يسير من السير للذهبي..
وانظر كتاب الثقات لابن حبان.
اذا اتممت القراءة إحمد الله على ما انت به من النعم التي لا تعد ولا تحصى ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )
0 تعليقات
شاركونا بآرائكم وتعليقاتكم