من أجل أولادي !!!


في ربيع عام ٢٠١٢ دخلت على احدى مريضاتي. سيدة تايلاندية في أوائل الأربعينات من العمر. كانت تعاني من سرطان الثدي المنتشر في العظام والكبد والرئة وكنت أعالجها لمدة عامين. كانت دائمًا وأبدًا تأتى وحيدة فى كل موعد. ومهما كانت قسوة العلاج أو آثاره الجانبية فقد كانت تتعامل معه بصلابة منقطعة النظير ولا تتخلف عن موعد أبدا. 


في هذا الاستشارة كانت علي موعد مع أسوأ الأخبار التى يمكن أن تخبر بها إنسان. جاءت كعادتها وحيدة. قبل بدء الجلسة خرجت ألتمس الممرضة التى تتابع حالتها كى تحضر معنا هذا الموعد الهام لكن للأسف كانت فى أجازة من العمل. حاولت استدعاء ممرضة العيادة الخارجية لكنها كانت مشغولة بتغطية خمس عيادات ولا تسطيع الدخول فى استشارة مع أي طبيب. 


أخذت مريضتى إلي غرفتى وقلت لها بصراحة عندى أخبار غير سارة ولا أحب الكلام فيها معك وأنتم وحيدة فهل يمكن إرجاء المحادثة ليوم آخر تأتى فيه مع زوجك أو أى فرد من عائلتك أو أصدقائك ؟ قالت بهدوء ليس لى زوج ولا عائلة ولا أصدقاء يمكن أن أثقل عليهم بطلب الحضور معى إلى الموعد. أنا أعيش هنا فى بريطانيا مع صغارى الثلاثة وأكبرهم في الثانية عشرة من العمر. تفضل وأخبرنى ما تشاء ولا تقلق بشأنى. 


تماسكت أعصابى وقلت لها للأسف أظهرت الأشعة استمرار انتشار الورم وعدم الإستجابة للعلاج الكيميائي وقد إستنفذت كل العلاجات معكى علي مدار العامين الماضيين ولم يعد لدى أى علاج يمكن أن أصفه لكى. 


تنهدت بحسرة دون أن تذرف دمعة واحدة وسألت كم بقى لى من العمر ؟ قلت لها هل تودين فعلا أن تعرفى الإجابة على هذا السؤال ؟ قالت نعم. لدي أشياء هامة يتوجب على القيام بها قبل أن أموت. 

قلت لها من هم فى مثل حالتك يعيشون فى المتوسط مابين ٣-٦ شهور !!! 

قالت أتوسل إليك. هل هناك أية طريقة تجعلنى أعيش تسعة أشهر فقط ؟

قلت لها أنا أخبرتك بالمتوسط وهذا لا يعني أنك ستموتين بعد ٣-٦ أشهر قد تعيشين أيامًا أو قد تطول بك الحياة لمدة عام. لماذا تسعة شهور مهمة لك ؟

 

قالت أنا لا يحق لى التقدم بالحصول على الإقامة الدائمة فى بريطانيا إلا بعد تسعة أشهر. إذا ظللت على قيد الحياة حتى تسعة أشهر سأتقدم بالطلب وحتى لو مت بعد التقديم وقبل أن تأتينى الموافقة علي طلبي فإنها ستصل إلى أولادى وينعمون بالعيش فى بلد سيوفر لهم الرعاية الكريمة والتعليم من بعدي. 


قلت لها لا تقلقى على هذا الأمر سأكتب لك تقريرا مفصلا بحالتك تقدمينه إلى إدارة الهجرة ومجلس البلدية لإعطائك إقامة استثنائية وترتيب كفالة أولادك في غضون الأسابيع القليلة المقبلة. لم تصدق أننى يمكن أن أفعل هذا وهنا بدأت في البكاء وقالت كنت أتمنى أن أعيش حتى أرى أولادى يكبرون لكن يكفيني أني أمنت لهم مستقبلهم. 


عبثا حاولت تجميد الدموع في مقلتي وخرجت مسرعا من الغرفة وناديت علي الممرضة وأخبرتها أننى أعتذر عن عدم استطاعتى إكمال العيادة وأخذت مريضتي التايلاندية معى في سيارتى وأوصلتها إلى العنوان الذي أرادته. سألتها هل هذا بيتك ؟ قالت لا هذا محل عملى. قلت كيف تعملين بهذه الحالة. كنت أتوقع أنك لا تعملين منذ عامين !!! قالت لم أكف عن العمل يوما واحدا !!! أنا هنا بفيزا عمل وأخاف إن فقدت عملى أن أفقد اقامتي وأغادر البلاد فكان على أن أعمل أيا كان ما أعانيه من السرطان أو العلاج الكيميائي. هذا من أجل أولادي !!!!


إنها الأم أيها السادة الكرام. تلك الجوهرة التي لا نعرف قيمتها حتي نكبر ولا نقدر نعمة وجودها فى الحياة إلا عندما تغادرها. تلك التى نقسو عليها أحيانا بتعليقات غير مريحة أو نظرات غاضبة. تلك التى لا تعرف معظم زوجاتنا ولا أزواجنا كيف تدلل وتعامل بما يليق بها حين تكون في موقع الحماه. تلك التى لم يوصيها الله بنا لأنه فطرها على أن ترعانا وتهتم لشأننا دون وصاية. 


نسأل الله أن يعيننا على بر والدينا أحياءا كانوا أم أمواتا وأن يجمعنا بهم في جنات النعيم.