ذكر ذو الرئاستين في العشق أن بهرام جور الملك ، كان له ابن قد رشحه للمُلك من بعده ، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس مسيء الأدب ، فغمه ذلك ، فوكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه ، وكان يسألهم عنه فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما عنه ، فقال له المؤدب : قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صيرنا إلى الرجاء في فَلاحهِ.. 


فقال : وما ذاك الذي حدث؟  قال المؤدب : رأى ابنة فلان المرزبان ، فعشقها ، فغلبت عليه ، فهو لا يهدأ إلا بها ولا يتشاغل لحظةً عنها.... 


 فقال بهرام : الآن رجوت فَلاحَهُ ، ثم دعا أبا الجارية وقال له : إني مُسِرٌ إليكِ سراً ، فلا يعدوكَ أبداً ، فضمن المرزبان له ستره ، فأعلمه الملك أن إبنه قد عشق إبنته ، وإنه يريد أن يُنكحها أياه ، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها أو تقع عينه عليها ، فإذا استحكم طمعه فيها تجتنبه وتهجره ، فإن استعلمها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ، ثم لتعلمني أنت خبرها وخبره ، ولا تطلعهما على ما أُسِرُّه إليك .


 فقبِل أبوها ذلك منه ، ثم قال الملك للموَكل بأدبه : حُضَّه وشجعه على مراسلة الفتاة ، ففعل ذلك ، وفعلت الفتاة كما أمرها أبوها فلما إننهت إلى التجني عليه ، وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله ، أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصولجان حتى مهر في ذلك .


 ثم رفع إلى أبيه الملك بأنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء وما أشبه ذلك . فسُرَّ الملك بذلك ، وأمر له بما طلب ، ثم دعا مُؤدِّبَهُ وقال له : إن الموضع الذي وضعَ به ابني نفسَه من خبر هذه الجارية لا يدري به ، فتقدم إليه وأمره أن يرفع أمرها إليَّ ويسألني أن أزوجه إياها ، ففعل المؤدبُ ذلك ، فرفع الفتى ذلك لأبيه ، فدعا بأبيها وزوجه إياها وأمر بتعجيلها إليه... 


 وقال لولده : إذا إجتمعت أنت وهي فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك ، فلما إجتمعا ، صار إليه وقال له : يا بني لا يضعنَّ قدرَها عندك مراسلتُها إياك ، وهي لما تزف لخِبائك ، فإني أنا من أمرها بذلك وهي أعظم الناس مِنَّة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك ، حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي ، فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك 


 ففعل الفتى وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به وأحسن ثواب أبيها ، ورفع منزلته لصيانة سره ، وأحسن جائزة المؤدب لامتثاله بما أمره به ..


المُستَطرَف في كل فنٍ مُستَظرَف - الفصل الأول في وصف العشق .. للحافظ شهاب الدين أبو الفتح الأبشيهي ..