بكل ليلة اعتادت سيدة أن تجلس بجانب ابنها الوحيد قبل أن يخلد لنومه، وتقص على آذانه ومسامعه محدثة إياه بمنتهى الشغف عن مدينتها التي كانت تسكن بها هي وأهلها قبل أن تصبح بلادا محتلة من قبل الطغاة الغزاة، وقبل أن ينتقلوا للعيش بالمخيمات.

كما اعتاد ابنها “وطن” أن يذهب يوميا كل صباح للمدرسة ويجتمع مع أصدقائه طلاب صفه، ويشرعون في الحديث عن مدينة كل واحد منهم…

وطن:  “إن مدينتي هي الأفضل والأجمل من بين كل المدن، فمدينتي بها أشجار البرتقال التي تعطر أجواء المدينة بأكملها بروائحها الطيبة الزاكية.

فيرد عليه صديقه محمد: “كلا، بل مدينتي هي الأفضل من بين كل المدن، فمدينتي تطل على شاطئ البحر فنستطيع أن نرى السفن وهي تعبر.

فتغضب هنادي ثائرة: “بل مدينتي هي الأفضل على الإطلاق، فبمدينتي أشجار الزيتون والكرمة، كما أن المنازل بمدينتي كبيرة وجميلة.

ويصبح صوت الأطفال عاليا، كل منهم يحاول أن يثبت أن مدينته هي الأفضل حتى يسمع صرخاتهم معلمهم…

المعلم: “ما القصة؟!، لم صوتكم عاليا؟!”

فيرد على معلمه وطن قائلا: “يا معلمي كل واحد منا يقول أن مدينته هي الأفضل والأجمل على الإطلاق، ولم نتفق فيما بيننا بعد على أي المدن هي الأجمل والأفضل على الإطلاق”.

فيرد المعلم متأثرا بحديث الصغار قائلا: “كل مدننا رائعة، وكلها جميلة وكلها الأفضل والأروع والأجمل على الإطلاق”.

وطن يسأل معلمه: “يا معلمي لماذا لا نعود لمدننا الجميلة الرائعة ونترك بيوت الزينكو ونهرب من رطوبة المخيمات؟!”

المعلم: “إنني لن أجيبكم على هذا السؤال، فليرجع كل منكم إلى والده أو والدته وليسأله هذا السؤال، وليتعرف على مدينتنا الغائبة عن أعيننا لكنها محفورة في قلوبنا”.

وفي هذه الليلة سأل وطن والدته ذلك السؤال، فأجابته والدته قائلة: “كم نتمنى يا بني أن نرجع لديارنا ومدننا التي تربينا ونشأن فيها، غرسنا أشجارها وزرعنا أرضها، وشربنا من مائها، ولعبنا بطرقاتها، آه.. آه يا وطن كم كانت جميلة هذه الأيام”.

وطن: “أمي لنرجع لأوطاننا ونسكن بيت جدي هناك”.

الأم: “يا بني إن منزل جدك قد احتله الأغراب، خربوا كل شيء حتى أشجارنا الجميلة قطعوها كلها حتى أن العصافير هاجرت وتركت مدينتنا”.

وطن والدموع في عينيه: “أتعلمين يا أمي بكل ليلة حينما أنام بعدما تحدثيني عن مدينتنا وتصفينها لي، أحلم أني أحلق فوق شوارعها كالطير حتى أنني أشتم رائحة البرتقال بأشجارها”.

والدته وقد فاضت الدموع من عينيها أيضا: “سنعود إليها بإذن الله يا وطن يوما ما سنعود إليها”.

وطن: “إن شاء الله يا أمي في القريب فكم أني مشتاق إليها”.

والدته: “أتعلم يا بني لم أسميتك وطن؟!”

وطن: “لم يا أمي؟”

والدته: “لكثرة حنيني واشتياقي للعودة للوطن يا بني”.

وفي صباح اليوم التالي استيقظ وطن نشيط للغاية من نومه، وفي الحال قام بترتيب فراشه وتناول إفطاره وذهب لمدرسته مسرعا.

وبالمدرسة استأذن وطن من معلمه يريد أن يقول شيئا، فأذن له المعلم..

المعلم: “تفضل يا وطن ماذا تريد أن تقول؟”

وطن: “معلمي أريد أن أرجع لمدينتي”.

المعلم: “وكيف هذا يا وطن؟!، جميعنا يا بني نريد العودة لمدننا، معلمك يريد وأصدقائك بالفصل يريدون، الكل يريد العودة للوطن”.


وطن: “إذاً فليحضر كل منا غدا بعض البالونات وقطعة من الكرتون وصورة له، وسأخبركم كيف لنا جميعنا أن نعود وطننا”.

عاد جميع الطلاب متعجبين مما طلبه منهم وطن، ولكنهم أيضا متشوقين ليوم الغد يوم العودة لمدنهم الجميلة التي سمعوا عنها ولم يروها.

وبصباح اليوم التالي ذهب الجميع للمدرسة متشوقا لما سيحدث بها، والكل جاء ببالونات ملونة وقطعة من الكرتون وصورة له، فطلب منهم وطن أن يقوموا بنفخ البالونات وإلصاق صورتهم بقطعة الكرتون، وكتابة اسم مدينته التي حرم من رؤيتها عليها.

وحلقت البالونات في السماء وودعها الطلاب بعينين مليئة بالحنين والشوق للوطن.