يُحكى أنه كان هناك أحد العبيد يشتهر بالكذب ، وبرغم من أنه لم يكن يكذب إلا كذبة واحدة في العام ، إلا أن كذبته كانت تقلب الدنيا رأسا على عقب.

وكثيرا ما كانت تنتهي كذبته بالخراب والدمار على سيده وأهل بيته وجيرانه ، وربما على البلدة التي يعيشون فيها .
كان ذلك العبد يدعى كافور ،وبسبب هذه الصفة المدمرة لم يكن هذا العبد يمكث عند أي أحدا يشتريه طويلاً .

فكلما اشتراه أحد تسبب كذبه في وقوع مصيبة على رأسه ، فيسرع برده إلى النخاس وهو تاجر العبيد الذي كان قد اشتراه منه ،وحتى ذلك النخاس لم يسلم من المصائب والنوائب ،التي كان ذلك العبد يوقعه فيها بكذبه .

وبسبب ذلك قرر النخاس أن يبيع عبده كافور بأي ثمن ،حتى يتخلص من المصائب التي يجلبها له بكذبه، فخرج به إلى سوق الرقيق ،ونادى في الناس قائلا : من يشتري ذلك العبد على عيبه ؟

فتقدم أحد التجار من الناس وسأله قائلا : بما أن سعره رخيص ،ما هو عيب ذلك العبد؟!

فقال النخاس : يكذب في كل عام كذبة واحدة، ويبدو أن ذلك التاجر كان غريبا عن البلدة .

ولم يكن التاجر يعلم شيئاً عن المصائب التي تسببها كذبة واحدة خلال عام واحد، ولذلك ضحك وقال مستهينا : وماذا تضر كذبة واحدة في العام ؟! إذا أنا أشتريه .

وهكذا اشترى ذلك التاجر المسكين العبد الكذاب، وأخذه معه إلى بيته، بعد قبض النخاس ثمنه الرخيص، وكتب للتاجر وثيقة البيع، والتي يصر فيها على أنه قد باع العبد بعيبه، وأنه خال من ذنبه .

وكان أول شيء فعله التاجر المخدوع، هو أنه كسا عبده كافور كسوة حسنة، وأصبح يصطحبه معه في رحلاته التجارية .



وتبقى على نهاية العام عدة أشهر، فصبر العبد كافور حتى انتهى العام على مضض ولم يكذب فيه أبداً، وذلك لأن هذا السيد أكرمه ولم يعر اهتماما لكذبه سابقا، .

ولأنه كان قد كذب كذبة في نهاية العام الذي قبله ،وحل العام الجديد، وكان عام خير على المزارعين، فازدهرت التجارة، وربح التاجر ربحا كثيراً .

وذات يوم دعا التاجر عددا من أصدقائه التجار إلى وليمة في بستان له خارج البلدة، وأخذ معه عبده كافور ليقوم على خدمتهم.

جلس التاجر مع أصدقائه في البستان يأكلون ويتحدثون حتى انتصف النهار ، فاحتاج التاجر إلى مزيدا من الطعام لضيوفه .

فقال لعبده كافور : اذهب إلى البيت، واطلب من سيدتك أن تقول للخادمة أن تعد مزيدا من الطعام للغداء، ثم أحضره ولا تتأخر .

فقال كافور : أمرك يا سيدي وركب كافور جواد سيده، وغادر البستان مسرعا في طريقه إلى البيت .

وكان كافور قد اشتاق للكذب طيلة تلك الأيام، بعد أن مضى عاما كاملا على آخر كذبة كذبها.

فقال في نفسه : يبدو أنه قد حان الوقت یا كافور لتدلي بكذبتك الجديدة ،لا بد أن أنفذ كذبتي الآن ، وليكن ما يكن .

وما أن اقترب كافور من بيت سيده، حتى شق ثيابه، وأخذ يبکي ويصرخ مستغيثا، فتجمع حوله أهل القرية يسألونه عما حدث .

وسمعت زوجة سيده وبناته صراخ كافور واستغاثته فعرفوا صوته، فخرجن مستطلعات ما يحدث ، فلما رأين عبدهم كافور على هذه الحالة فزعن ،وسألنه عما حدث ؟!

فقال وهو مستمر في البكاء : مصيبة وقعت على رؤوسنا كارثة حلت علينا يا سيدتي .

فقال : لقد كان سیدي جالسا مع أصدقائه بجوار حائط قديم، فانهار الحائط ، ووقع عليهم، فقتلهم جميعا .

فلما رأيت ما حدث ركبت جواد سيدي ، وأسرعت لأخبركم بالخبر ،فلما سمعت سيدته وبناتها ذلك الكلام، تملكهن الفزع وسيطر عليهن الحزن والخوف، وأخذهن البكاء والعويل على فقد أعز الناس بالنسبة لهن .

واتجهت الزوجة إلى داخل البيت ، فأخذت في ثورة حزنها تقلب أثاث البيت ومتاعه رأسا على عقب ،ويبدو أنها كانت تحبه كثيراً لأنها لم تكتف بذلك بل أخذت تحطم كل شيء في البيت ، وتلقي به إلى الشارع .

وكانت شبابيك البيت تعوق عملها التدميري ولذلك نادت كافور قائلة : ويلك يا كافور تعال وساعدني في تحطيم هذه الشبابيك اللعينة ، وتحطيم كل شيء في البيت ،حزناً على وفاة سيدك .

فتقدم كافور وساعدها في تحطيم الشبابيك والأبواب، وتخريب كل شيء حتى الأواني قاما بكسرها .

وهكذا لم يتبقى من فعل الزوجة ومن فعل كافور أي شيء يصلح للاستعمال في البيت .

ثم غادرت الزوجة البيت مع بناتها، وهم يصرخون ويبكون، وقالت الزوجة لکافور : سر أمامنا أيها العبد المشئوم، حتى تدلنا على المكان الذي قتل فيه سيدك ، فنخرجه من تحت الأنقاض، ونقيم له عزاء وجنازة تليق بمقامه الكريم .

فمشى كافور أمامهم راكبا جواد سيده، وهو يبکي ويصيح قائلا : وا مصيبتاه .. وا سيداه .. وأخذ الجميع يبكون مرددين خلفه : وا مصيبتاه .. وخرج معهم أهل القرية من الكبار والصغار ، رجالا ونساء..

وهكذا سار الموكب الحزين يتقدمه كافور حتى خرجوا من القرية ، فقال أحد الجيران ناصحا الزوجة : إن ما نفعله ليس صوابا .

يجب أن نذهب إلى الوالي ونخبره بما حدث أولا ، حتى يرسل معنا فرقة إنقاذ بالفؤوس والمعاول ، وإلا فلن نتمكن من إخراج الجثث بمجهودنا من تحت الأنقاض.

فاستحسنت الزوجة الفكرة، وهكذا توجه الموكب الحزين إلى دار الوالي ،أما كافور فإنه توجه إلى البستان باكياً صارخاً ممزق الثياب .

فلما رآه سيده على هذه الحال تملكه الفزع، ونهض مستفسرا عما حدث له !!

فقال له كافور : عندما وصلت إلى البيت وجدته قد انهار على كل من فيه وقتلهم جميعاً .

فقال التاجر في فزع : وهل ماتت زوجتي وبناتي ؟!

فقال كافور : ماتت سيدتي وبناتك أيضاً وكل من في البيت .

فبكى التاجر وقال في حزن : وهل ماتت ابنتي الصغرى ؟

فقال كافور : الصغرى والكبرى والوسطى، كلهم ماتوا .

فزاد بكاء التاجر وقال له : وبغلتي ، هل نجت ؟!

فقال كافور : لقد سقطت حيطان البيت والحضيرة على البغلة والغنم والدجاج ، و كل شيء حي فقتلته .

فلما سمع التاجر المسكين كل هذه الأخبار المفجعة، و أظلمت الدنيا في عينيه، ولم تقدر ساقاه على حمله، فسقط على الأرض وأخذ يصرخ مرددا : وا مصيبتاه .. وا زوجتاه .. وا وا وا فيا قوم من جرى له مثل ما جرى لي ؟!

ولما رأى أصدقاء التاجر ما رأوا، وسمعوا ما سمعوا من وصف كافور للمصائب التي وقعت ،فعلوا مثلما فعل صديقهم، وأخذوا يواسونه .

وبينما الجميع على هذه الحال من الحزن، شاهدوا الموكب الحزين تتقدمه الزوجة والبنات ، وهو يقترب نحو البستان .

ورأوا زوجة التاجر وبناته في صراخ وعويل، فلما رآهم التاجر أحياء ردت فيه الروح، ونهض مستقبلا إياهم، فقالت الزوجة وبناتها : حمدا لله على سلامتك يا زوجي العزيز ،وتعلق البنات بأبيهم، غير مصدقات أنه لم يمت.

وقال التاجر : الحمد لله الذي نجاكم، كيف نجوتم من البيت المتهدم على رؤوسكم ؟

فتعجبت الزوجة وقالت : بل كيف نجوت أنت ورفاقك من الحائط الذي سقط عليكم .

فقال التاجر : من الذي أخبركم بهذه القصة الملفقة ؟!

فقالت الزوجة : عبد السوء كافور .

فقال التاجر : لقد أخبرنا نحن أيضا بما هو أسوأ من ذلك .

ثم التفت إلى كافور قائلا : يا ويلك يا عبد النحس، یا ملعون الجنس، كيف تجرؤ على تلفيق كل هذه المصائب والأكاذيب لي ولأهل بيتي ؟!

لأسخن جلدك عن لحمك، ثم ألقي بك إلى الكلاب لتأكلك .

فقال كافور في تبجح : والله يا سيدي أنت لا تسطيع أن تمس شعرة مني، ولا تستطيع أن تنفذ شيئا من هذا التهديد .

فتعجب جميع الحاضرين، وقال التاجر في غيظ : وما الذي يمنعني من أن أفعل یا ملعون !

فقال كافور : لقد اشتريتني، وأنت تعلم أنني أكذب في كل سنة كذبة، وهذا الذي فعلته اليوم هو مجرد نصف كذبة لما أكملها، فإذا اكتملت السنة كذبت نصفها الآخر .

فتكتمل كذبة هذا العام، فكاد التاجر يجن من الغيظ وقال : يا ألعن العبيد على وجه الأرض .

هل هذه كلها مجرد نصف كذبة ،اذهب عني فقد أعتقتك لوجه الله ،فما ذنب الناس ابيعك ويشتريك غيري ويبتلى فيك .

فقال كافور في تحد: إن رضيت أنت أن تعتقني، فأنا لن أعتقك، حتى تكتمل السنة ، فأكذب نصف الكذبة الآخر، وبعد أن أتمها اذهب بي إلى السوق وبعني على عيبي ، ولكن لا تعتقني .

لأنني لا أجيد حرفة أتكسب منها ،فقال التاجر في غيظ : إذن سأقتلك .

فقال كافور في تحد : لن تستطيع لأن العقد الذي اشتريتني به مكتوب فيه هذا الشرط ، وهناك شهود على ذلك .

وهكذا كظم التاجر غيظه وعاد مع زوجته وبناته إلى البيت ،والعبد كافور يسير خلفهم غير عابئ بما حدث.

.فلما رأى التاجر المسكين ما حل ببيته من الخراب والدمار ،كاد يموت من الغم وقال لزوجته : من الذي فعل كل هذا بالبيت ؟!

فقالت الزوجة : لما علمت بما حدث لك فعلت ذلك، وقد ساعدني عبد السوء في معظم التدمير .

فقال التاجر: ما رأيت عمري أنحس من هذا العبد بكذبته، وبرغم كل هذا الدمار والخراب فهو مصر على أنها نصف كذبة .

ماذا كان سيحدث لو أنها كانت كذبة كاملة ..

فقالت الزوجة: لا بد أنه كان سيخرب العالم بأكمله، وأخدوا يضحكون على ما حل بهم من المصائب وكان كافور يبتسم فرحا بقرب نصف كذبته الأخرى .