كتب زهير السراج :

في مدينة مانشتر الإنجليزية وقفتُ منتظراً دوري أمام شباك التذاكر في إحدى محطات الحافلات لأشتري بطاقة سفر بالحافلة إلى مدينة لندن التي تبعد حوالي 330 كم ، وكانت أمامي سيدة ستينية تحول بيني وبين شباك التذاكر وطال حديثها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية : الناس ينتظرون ، أرجوكِ تنحّي جانباً ! فابتعدت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال ، وقبل أن أشتري بطاقتي سألت الموظفة عن المشكلة ، فقالت لي بأن هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر وليس معها يورو واحد قيمة بطاقة دخول المحطة ، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذا ممنوع . قلتُ لها : هذا يورو وأعطِها البطاقة ، وتراجعتُ قليلاً وأعطيتُ السيدة مجالاً لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجددا .. اشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباً وكأنها تنتظرني ، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني ، إلا أنها لم تفعل ، بل انتظرتْ لتطمئن إلى أنني اشتريت بطاقتي وسأتوجه إلى المحطه لركوب الحافله وقالت لي بصيغة الأمر : احمل هذه .. وأشارت إلى حقيبتها !! كان الأمر غريباً جداً بالنسبة لي ، فهؤلاء الناس الذين يتعاملون بلباقة ليس لها مثيل ، كيف تتعامل معي هذه السيدة بهذه الطريقه ؟! أنا بدوري وبدون تفكير حملت لها حقيبتها واتجهنا سوية إلى الحافلة ، فكان من الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها لأنها كانت قبلي تماماً في الدور  .. حاولت أن أجلس من جهة النافذة لأستمتع بمنظر تساقط الثلج الذي بدأ منذ ساعة وكأنه يقول وهو يمحو جميع ألوان الطبيعة معلناً بصمتِه الشديد أنه هو السيد الذي يأتي بالخير ، لكن السيدة منعتني من الجلوس بجانب النافذه وجلستْ هي من دون أن تنطق بحرف واحد !! جلستُ إلى جانبها ورحتُ أنظر أمامي ولا أعيرها اهتماماً ، فأخذت تلتفت إلي وتنظر في وجهي وتحدق فيه مليا ، وطالت التفاتتها نحوي دون أن تنطق ببنت شفة وأنا أنظر أمامي وأضجر من هذه الصحبة المزعجة لاسيما أن الطريق طويلة ، حتى إنني بدأت أتضايق من نظراتها التي لا أراها لكنني أشعر بها فالتفتُ إليها ، عندها تبسمتْ قائلة : كنت أختبر مدى صبرك وتحملك ! قلتُ : صبري على ماذا ؟ قالت : على قلة ذوقي ، أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر .. قلتُ : لا أظنك تعرفين بماذا كنتُ أفكر ، وليس مهماً أن تعرفي ! قالت : حسناً ، سأقول لك لاحقاً، لكن بالي مشغولٌ الآن في كيف سأرد لك الدين .. قلت لها : الأمر لا يستحق ، فلا تشغلي بالك .. قالت : عندي حاجة سأبيعها لك الآن وسأرد لك اليورو ، فهل تشتريها أم أعرضها على غيرك ؟ قلت متململاً : هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ما هي ؟ قالت : إنها حكمة ، أعطني يورو واحداً لأعطيك الحكمة .. قلت : وهل ستعيدين لي اليورو إن لم تعجبني الحكمة ؟ قالت : لا .. فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه ، ثم إن اليورو الواحد يلزمني لأنني أريد أن أرد به دَيني . أخرجتُ لها يورو من جيبي ووضعته في يدها وأنا أنظر إلى تضاريس وجهها . لا زالت عيناها تلمعان كبريق عيني شابة في مقتبل العمر ، وأنفها الدقيق مع عينيها يخبرون عن ذكاء ثعلبي ، مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة ، لكنني آثرت ألا أسألها عن شيء ، فأنا على يقين بأنها ستحدثني عن نفسها فرحلتنا لا زالت في بدايتها ، أغلقت أصابعها على هذه القطعة النقدية التي فرحت بها كما يفرح الأطفال عندما نعطيهم بعض النقود وقالت : أنا الآن متقاعدة ، كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة ، جئت من مدينتي لأودع إحدى صديقاتي وأرافقها إلى المطار . أنفقتُ كل ما كان معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي ، إلا أن سائق التاكسي أحرجني وأخذ مني يورو واحد زيادة ، فقلت في نفسي سأنتظر الحافلة خارج المحطة ، ولم أكن أدري أن ذلك ممنوع .. أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى بعدما رأيت شهامتك ، حيث دفعتَ عني دون أن أطلب منك .. ستقول لي بأن الموضوع ليس مادياً وأن المبلغ بسيط ، وسأقول لك بأنك أنت من سارعت بفعل الخير ودونما تفكير .. قاطعتُ المرأة مبتسماً : أرى بأنك ستحكي لي قصة حياتك !! لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ ؟ أين الحكمة ؟ قالت : "فقط دقيقة". قلت لها : سأنتظر دقيقة ، قالت لي : لا ، لاتنتظر .. " فقط دقيقة ".. هذه هي الحكمة ! قلت : لم افهم شيئاً ! قالت : لعلك تعتقد بأنك تعرضتَ لعملية احتيال ؟ قلت : ربما !! قالت : سأشرح لك الحكمة هي " فقط دقيقة " لا تنسَ هذه الكلمة أبداً ... في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قراراً ، عند


 التَفكُّر في أي مسأله في الحياة ، وعندما تصل إلى لحظة اتخاذ القرار أعطِ نفسك "فقط دقيقه" دقيقة واحدة إضافية ، ستين ثانية لاغير . هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج خلال ستين ثانية ؟؟ في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل إتخاذ قرارك قد تتغير أمور كثيرة ولكن بشرط واحد .. قلت : وما هو الشرط ؟ قالت : أن تتجرد عن نوازع نفسك ، وتُودع في داخل دماغك وفي صميم قلبك جميع القيم الإنسانية والمُثل الأخلاقية دفعة واحدة وتعالجها معالجة موضوعية دون تحيز .. فمثلاً : إن كنت قد قررتَ بأنك صاحب حق وأن الآخر قد ظلمك ، فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرد عن نوازع نفسك ربما تكتشف بأن الطرف الآخر لديه حق أيضاً ، أو جزء من هذا الحق ، وعندها قد تغير قرارك تجاهه .. إن كنت نويت أن تعاقب شخصاً ما ، فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذراً فتخفف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائياً .. دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة ، في حين أنها قد تكون كارثية .. دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكاً بإنسانيتك وأكثر بعداً عن أهوائك وغرورك .. دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك ، وإذا كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرى حياة مجموعة كاملة من البشر !!! هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة ؟ قلت : صحيح ، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ اليورو . بسطت يدها وقالت : تفضل ، أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر ... والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي .. أعطتني اليورو ، تبسمتُ في وجهها فاستغرقت ابتسامتي أكثر من دقيقة .. لأنتبه إلى نفسي وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل جبيني قائلة : هل تعلم أنه لولاك كان علي أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي .. فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما هي مشكلتي ، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب اليورو من أحد ...! قلت : حسناً ، وماذا ستبيعينني لو أعطيتك مئة يورو ؟ قالت : سأعتبره مهراً وسأقبل بك زوجاً ! علتْ ضحكاتُنا في الحافلة وأنا أُمثـِّلُ بأنني أريد النهوض ومغادرة مقعدي هربا من طرحها وهي تمسك بيدي قائلة : اجلس فزوجي متمسك بي وليس له مزاج أن يموت قريباً ..! وأنا أقول لها : " فقط دقيقة " .... " فقط دقيقة ". لم أتوقع بأن الزمن سيمضي بسرعة بعد أن انسجم كلانا بالحديث !! حتى إنني شعرت بنوع من الحزن عندما غادرتْ هي الحافلة عند وصولنا إلى مدينتها في منتصف الطريق تقريباً .. فقبل ربع ساعة من وصولها حاولتْ أن تتصل من جوالها بابنها كي يأتي إلى المحطة ليأخذها ، ثم التفتتْ إليّ قائلة : على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد ... فأعطيتها جوالي لتتصل ، المفاجأة أنني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريباً استلمتُ رسالتين على الجوال ، الأولى تفيد بأن هناك من دفع لي رصيداً بمبلغ يزيد عن 10 يورو ..!! والثانية منها تقول فيها : كان عندي رصيد في هاتفي لكنني احتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك فأجزيكَ على حسن فعلتك .. إن شئت احتفظ برقمي ، وإن زرت مدينتي فاعلم بأن لك فيها أمّاً ستستقبلك ... فرددتُ عليها برسالة قلت فيها : عندما نظرتُ في عينيك خطر ببالي أنها عيون ثعلبية ، لكنني لم أجرؤ أن أقولها لك .. أتمنى أن تجمعنا الأيام ثانية ، أشكركِ على الحكمة واعلمي بأنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير ..


" فقط دقيقة " حكمة أهديها لكم ، فمن يقبلها مني في زمن نهدر فيه الكثير من الساعات دون فائدة ؟!...